مناورات أمريكية- هل يغير الامتناع عن التصويت مسار الحرب في غزة؟

المؤلف: محمود علوش11.09.2025
مناورات أمريكية- هل يغير الامتناع عن التصويت مسار الحرب في غزة؟

في الخامس والعشرين من شهر مارس/ آذار الحالي، اتخذت الولايات المتحدة موقفًا محايدًا، ممتنعةً عن استخدام حق النقض "الفيتو"، حيال مشروع قرار في مجلس الأمن الدولي يدعو إلى وقف فوري لإطلاق النار في قطاع غزة خلال شهر رمضان المبارك. هذه الخطوة، وإن بدت إيجابية، تحمل في طياتها الكثير من التساؤلات حول النوايا الحقيقية للسياسة الأمريكية.

تُعد هذه المرة الثانية التي تتخذ فيها الولايات المتحدة موقفًا مخالفًا لموقف حليفتها الوثيقة، إسرائيل، داخل أروقة الأمم المتحدة. فبالعودة إلى عام 2016، نجد أن الولايات المتحدة قد امتنعت أيضًا عن عرقلة مشروع قرار دولي يطالب إسرائيل بوقف أنشطتها الاستيطانية في الضفة الغربية والقدس الشرقية المحتلتين، ويؤكد بشكل قاطع عدم شرعية المستوطنات التي أقيمت على الأراضي الفلسطينية منذ عام 1967. هذا التوجه، وإن كان يحمل بصيص أمل، إلا أنه لا يزال غير كافٍ لتغيير الواقع المرير على الأرض.

على الرغم من أن الخلافات المتصاعدة بين واشنطن وتل أبيب، والتي تجلت بوضوح على خلفية الحرب الإسرائيلية الدائرة في قطاع غزة، أصبحت واضحة للعيان، إلا أن صحوة الضمير الأميركي المتأخرة في مجلس الأمن يجب ألا تخدعنا أو تغرّر بنا. فالأمر أعمق وأكثر تعقيدًا مما يبدو للوهلة الأولى.

الحقيقة الصارخة هي أن إدارة الرئيس جو بايدن، التي عرقلت على مدار الأشهر الستة الماضية من الحرب العديد من مشاريع القرارات التي تطالب بوقف هذه الحرب المدمرة، والتي منحت إسرائيل طوال هذه الفترة غطاءً دبلوماسيًا كاملًا ودعمًا عسكريًا سخيًا وغير محدود؛ بغية مواصلة الحرب على غزة دون أدنى اعتبار لأرواح المدنيين الأبرياء والقانون الدولي الإنساني، لا يمكن أن تتغير مواقفها ببساطة بمجرد أن بدأت واشنطن تنتقد الهجمات الإسرائيلية على المدنيين العزل، وسمحت أخيرًا لمجلس الأمن بتمرير قرار متواضع يطالب بوقف إطلاق النار. التغيير الحقيقي يتطلب أفعالًا ملموسة، لا مجرد أقوال وبيانات.

بدايةً، يجب أن نتفق على نقطتين أساسيتين وواضحتين تمامًا في السياسة الأميركية تجاه الحرب المستمرة: أولاً، الولايات المتحدة ليست مجرد حليف يقدم الدعم السياسي لإسرائيل ويحميها من الضغوط الدولية المتزايدة، بل هي شريك كامل وشامل في هذه الحرب. فجزء كبير من الأسلحة المتطورة والذخائر الفتاكة التي تستخدمها إسرائيل في حربها الشرسة على قطاع غزة المحاصر، يأتي مباشرة من الولايات المتحدة. وتشير التقارير إلى أنه حتى أواخر ديسمبر/ كانون الأول الماضي فقط، كانت واشنطن قد أرسلت ما يزيد على 230 طائرة شحن ضخمة، و20 سفينة حربية محملة بكميات هائلة من الأسلحة والمعدات العسكرية المتطورة إلى إسرائيل منذ اندلاع الحرب.

ولا يوجد أي مؤشر أو دليل يشير إلى أن عمليات تصدير الأسلحة قد تراجعت أو تباطأت منذ تلك الفترة، حتى في الوقت الذي انفجرت فيه التوترات الظاهرية بين واشنطن وتل أبيب. فمن الواضح والجليّ أنه لم يكن بمقدور إسرائيل مواصلة هذه الحرب المستمرة حتى الآن، لولا الدعم العسكري الأميركي السخي واللامحدود على وجه الخصوص.

أما النقطة الثانية الجوهرية، فتتمثل في أن الخلافات الإسرائيلية الأميركية الحالية، ليست خلافات جوهرية حول الحرب بحد ذاتها، بقدر ما تتعلق بالأزمة المتفاقمة بين إدارة بايدن ورئيس الوزراء الإسرائيلي الحالي، والتي ظهرت وتجلت بوضوح قبل اندلاع الحرب من جانب، وبمعارضة إسرائيل الصريحة للتصور الأميركي لمستقبل غزة المحطمة وللصراع الفلسطيني الإسرائيلي المعقد في اليوم التالي لانتهاء الحرب، من جانب آخر. هذه الخلافات تعكس تباينًا في الرؤى حول كيفية إدارة الوضع الراهن وما بعده.

وبهذا المعنى، فإن واشنطن دعمت، ولا تزال تدعم، الأهداف العريضة التي وضعتها إسرائيل لنفسها في هذه الحرب، ولكنها لم تعد قادرة على مواصلة تحمل التكلفة الباهظة للصمت المطبق عن الآثار الكارثية والمدمرة التي تتسبب بها الحرب في قطاع غزة المحاصر.

وإذا كان تحول الموقف الأميركي تجاه إسرائيل الآن مُصممًا، كما تحاول واشنطن أن تُظهر للعالم، للضغط على تل أبيب؛ بغية منعها من القيام باجتياح شامل وواسع النطاق لمدينة رفح المكتظة بالسكان المدنيين، والسماح بوصول المساعدات الإنسانية الضرورية والمنقذة للحياة إلى المنكوبين والمتضررين في قطاع غزة، فإنه كان بمقدور إدارة بايدن منع حصول هذه الكارثة الإنسانية المروعة من الأساس لو أظهرت منذ البداية الخطوط الحمراء الواضحة التي تضعها الآن أمام إسرائيل. فالتدخل المبكر كان يمكن أن يخفف الكثير من المعاناة.

مع استثناء تمرير إدارة الرئيس السابق باراك أوباما مشروع قرار تاريخي في مجلس الأمن لإدانة الاستيطان الإسرائيلي، فإن شيئًا جوهريًا لم يتغير على أرض الواقع

كما أن واشنطن تصيغ تحول موقفها من منطلق الحفاظ على مصلحة إسرائيل في إيجاد مخرج آمن ومقبول للحرب قبل حاجة الفلسطينيين الماسة إلى ذلك. وحتى في الوقت الذي امتنعت فيه واشنطن عن عرقلة مشروع قرار مجلس الأمن الدولي الأخير، فإن امتناعها عن التصويت، وإن أرجعته إلى أن مشروع القرار لا يُدين حركة حماس بشكل قاطع، يعكس بوضوح كيف أن الولايات المتحدة لا تزال مترددة في إظهار موقف حازم يضغط بشكل لا لبس فيه على نتنياهو لإنهاء هذه الحرب المدمرة.

من الواضح والجليّ أن إسرائيل، التي تتعامل بازدراء شديد مع الأمم المتحدة وتحدت على مدى عقود طويلة من احتلالها الغاشم القرارات الدولية الصادرة، لن تستشعر الحرج أو الخجل بقدر كافٍ يدفعها إلى تغيير نهجها العدواني في الحرب. فالوسيلة الوحيدة الفعالة، التي يمكن أن تضغط عليها لتغيير مسارها المتطرف، تمتلكها الولايات المتحدة وحدها دون سواها، وهي التهديد الصريح والعلني بوقف تصدير الأسلحة والمساعدات الاقتصادية السخية لتل أبيب. ومع ذلك، فإن مثل هذا السيناريو لا يؤخذ حتى الآن على محمل الجد في أروقة صنع القرار في واشنطن.

لقد لوّحت كامالا هاريس نائبة بايدن مؤخرًا بعواقب أميركية وخيمة على إسرائيل في حال قررت المضي قدمًا في شن هجوم عسكري واسع النطاق على مدينة رفح المكتظة، لكنها لم توضح على وجه الدقة طبيعة هذه العواقب المحتملة. وقد ينجح الضغط الأميركي الحالي على إسرائيل في منع حدوث مذبحة دموية أخرى في رفح، ولكنه لن يؤدي بأي حال من الأحوال إلى معالجة الآثار الكارثية التي تسببت بها الحرب الإسرائيلية المستمرة على غزة.

علاوة على ذلك، فإن الدوافع الأساسية التي ضغطت على بايدن لاتخاذ موقف متغير إزاء الحرب تكمن في جانب في سعي بايدن الحثيث إلى استقطاب أصوات الديمقراطيين التقدميين والعرب في الانتخابات الرئاسية الحاسمة المقبلة في شهر نوفمبر/ تشرين الثاني، وفي جانب آخر بالحد من المخاطر المتزايدة التي تواجهها الولايات المتحدة في منطقة الشرق الأوسط المضطربة؛ بسبب هذه الحرب المستمرة.

وبمعزل عن هذه الدوافع المتشابكة، فإن ما يهمنا الآن هو ما إذا كانت الولايات المتحدة قد غيرت نهجها بالفعل بشكل حقيقي. فالحقيقة المرة هي أن هذا التحول الطفيف في موقف إدارة بايدن لم يرتقِ بعد إلى المستوى المطلوب الذي يضغط بقوة على إسرائيل لإنهاء هذه الحرب العبثية.

لأن فشل الولايات المتحدة الذريع على مدى عقود طويلة في دفع الصراع الفلسطيني الإسرائيلي المزمن إلى مرحلة الحل العادل والشامل، لعب دورًا محوريًا في انفجار حرب السابع من أكتوبر/ تشرين الأول. والساسة الأميركيون بدأوا يدركون بشكل متزايد المسؤولية التاريخية التي تتحملها واشنطن في هذا الصراع المعقد.

وقد بدأت إدارة بايدن تتبنى مشروع حل الدولتين من جديد، بعد سنوات من التهميش والإهمال. ولكن أي مسار من هذا القبيل لا يمكن أن يُكتب له النجاح والازدهار إذا لم تتوفر الظروف المناسبة والملائمة له. ولا نتحدث هنا فقط عن الحاجة الملحة والضرورية إلى إنهاء الحرب المدمرة على غزة، بل أيضًا عن التطرف المتفشي الذي يسيطر على السياسة الداخلية في إسرائيل، وعن الاستيطان الإسرائيلي المتسارع الذي أحدث تغييرًا كبيرًا في التركيبة السكانية الفلسطينية بطريقة تجعل من المستحيل تحقيق دولة فلسطينية قابلة للحياة دون إزالة هذا الاستيطان غير الشرعي.

ومع استثناء تمرير إدارة الرئيس السابق باراك أوباما مشروع قرار تاريخي في مجلس الأمن لإدانة الاستيطان الإسرائيلي، فإن شيئًا جوهريًا لم يتغير على أرض الواقع. كما أنه من غير المتصور أن تتمكن إدارة بايدن في الفترة القصيرة المتبقية قبل الانتخابات الرئاسية المقبلة من أن تعمل على إحداث تحول جذري في مسار الصراع الفلسطيني الإسرائيلي يحقق حل الدولتين المنشود.

وكما أن نتنياهو يسعى جاهدًا لشراء المزيد من الوقت الثمين من أجل مواصلة هذه الحرب لأطول فترة ممكنة، فإن إدارة بايدن تسعى أيضًا لشراء المزيد من الوقت من أجل التغطية على دورها الكارثي في هذه الحرب، بدلًا من ممارسة وسائل الضغط الأكثر تأثيرًا وفاعلية على إسرائيل لإنهاء هذه المأساة الإنسانية.

سياسة الخصوصية

© 2025 جميع الحقوق محفوظة